إسبانيا- من فرانكو إلى التضامن مع فلسطين، تحولات عميقة

المؤلف: حسن أوريد11.04.2025
إسبانيا- من فرانكو إلى التضامن مع فلسطين، تحولات عميقة

مع انبلاج فجر دستور عام 1978، بزغت إسبانيا بحلة جديدة، متجاوزةً تركة الماضي الفرانكوي، ومنطلقةً بثبات نحو التحديث، والدمقرطة، والتصالح مع القارة الأوروبية.

لقد سبر أغوار إسبانيا أحد العارفين ببواطنها، الأديب المغربي الراحل العربي المساري، الصحفي القدير الذي تقلد منصب سفير في البرازيل ووزيرًا للاتصال، والذي كان يتقن الإسبانية ببراعة فائقة. خطَّ المساري مؤلفًا أسماه "إسبانيا الأخرى"، رصد فيه التطورات التي شهدتها إسبانيا منذ دستور 1978، مرورًا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في مبنى الكورتيس (البرلمان) عام 1980، وصولًا إلى تداعيات أحداث 11 سبتمبر على إسبانيا، ثم العمل الإرهابي الآثم الذي استهدف محطة القطار في مدريد يوم 11 مارس 2004.

يُعد هذا الكتاب مرجعًا هامًا لكل من أراد أن يستكشف إسبانيا الحديثة من منظور عربي. وقد زيّن المؤلف غلاف الكتاب بصورة لامرأة تمارس لعبة الكوريدا الشهيرة، التي كانت حكرًا على الرجال فيما مضى، وذلك للإشارة إلى التحول الجوهري الذي طرأ على المجتمع الإسباني.

إسبانيا جديدة.. تتجدد

وها هي إسبانيا تطل علينا بوجه جديد، إثر حرب غزة، ساعيةً نحو التآلف مع محيطها الجنوبي. إنها مرحلة تتطلب من يوثق تطوراتها بعين فاحصة، كما فعل المرحوم العربي المساري في المرحلة الأولى.

دعونا نتأمل بعض ملامح هذا التحول، والتي تتجلى في الأغاني والمهرجانات التي تعبر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. لم تتردد الكلمات في وصف ما يحدث على الأرض بأنه إبادة جماعية، ولم تخجل من انتقاد إسرائيل، بل صدحت حناجر الكورال بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، وهتفت بقوة: "الحرية لفلسطين، وفلسطين حرة". ومثال على ذلك، مهرجان غنائي في قادس، اخترت منه أغنية تداولتها الوسائط الاجتماعية، برعاية مؤسسة كاخا سول كارنافال قادس، تقول كلماتها:

في تلك الأرض العريقة

تحت ظل مهد وضيع

سطع النور ليخلص البشر (...)

لا تغفل عن أن تروي لهم

أن هذه الأرض تشهد أيضًا

كيف يزهق الأطفال

لأنهم ولدوا بفلسطين

جلادهم إسرائيل،

دولة ظالمة وقاتلة

هذه هي الحقيقة الساطعة لتلك البقعة،

انشرها لكي يعلو الصوت

ويتحرك العالم بأسره

للقضاء على هذه الجرائم الشنيعة،

وأن تنعم فلسطين

بالحرية

والاستقلال التام

إنه لمن دواعي الدهشة والإعجاب أن نرى هذا التوجه الجديد المتعاطف مع الفلسطينيين، فهو ليس وليد اللحظة، بل كان دفينًا في أعماق الوجدان الإسباني. إنه تجسيد لعمق عربي وإسلامي ظل كامنًا في نفوس الإسبان، فإسبانيا، على الرغم من انتمائها الجغرافي إلى أوروبا، لم تكن أوروبية على الدوام من الناحية التاريخية أو الحضارية.

لقد كانت حدود أوروبا الحضارية، أو ما نسميه اليوم بالغرب، تبدأ من جبال البرينيه، ويشهد على ذلك قول فولتير الشهير: "ما يبدو حقيقة أسفل جبال البرينيه، ليس كذلك ما وراءها." لم تكن جبال البرينيه مجرد حدود جغرافية، بل كانت فاصلاً حضاريًا.

لطالما تمتعت إسبانيا بخصوصية فريدة، وشخصية متميزة، كما يرى المؤرخ أميركو كاسترو (الذي رحل عام 1972). ويعزو هذا التميز إلى التأثير الإسلامي العميق، وهو أمر إيجابي، إذ لا ينبغي النظر إلى التأثير على أنه عنصر قوة، والتأثر موطن ضعف، بل التأثر يولد دينامية إيجابية. لذلك، لا يمكن الاستهانة بالتأثير الإسلامي، حتى من خلال ردود الفعل المسيحية بعد انحسار الوجود الإسلامي. فالإسلام والعروبة جزء لا يتجزأ من تاريخ إسبانيا، سواء في فترة الوجود الإسلامي الزاهرة، أو كقوة دافعة من خلال ردود الفعل المسيحية في فترة الانحسار.

إن العلاقة التي سادت بين المكونات العقدية المختلفة، المسيحية واليهودية والإسلامية، حتى في فترات الاحتقان السياسي، كانت تنطبع بالتسامح، وهو ما غذى التفاعل والتأثر المتبادل، وأفرز دينامية إيجابية. استمر هذا الوضع حتى طرد المورسكيين سنة 1609، مما قضى على التنوع وأحل محله التنميط، وقوض التسامح الذي كان قائمًا على الدوام، وأفضى الأمر إلى انكماش حضاري.

وفي هذا السياق، يعقد كاسترو مقارنة بين المورسكيين وبروتستانت أوروبا، كما في طرح ماكس فيبر، لما كانوا يتمتعون به من قوة على العمل وطاقة خلاقة وأخلاقية عالية، تمامًا كأخلاق البروتستانت.

لقد قام الدكتور سليمان العطار، من جامعة القاهرة، بترجمة فصول من كتاب كاسترو، وصدرت ترجمة كاملة له عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أنجزها السيد علي إبراهيم المنوفي، وراجعها السيد حامد أبو أحمد. إن كتاب كاسترو يساعد على فهم إسبانيا الأخرى التي تتكشف لنا اليوم.

صدر رد على طرح كاسترو بقلم المؤرخ كلاوديو سانشيث ألبورنوس في كتاب بعنوان "لغز تاريخ إسبانيا" (غير مترجم)، يدحض فيه طرح كاسترو، ويرى أن حلول المسلمين بشبه الجزيرة الأيبيرية كان بمثابة اغتصاب، ولذلك تكتسب الحروب التي تسمى بالاسترداد شرعية، وذلك لكي تستعيد إسبانيا "حقيقتها". أما طرد المسلمين، فبالرغم من أنه مؤذ من الناحية الأخلاقية والإنسانية، إلا أنه مُبرَّر من الناحية التاريخية والحضارية.

توزعت إسبانيا بين هذين الاتجاهين، أو المدرستين: الاتجاه الذي يمثله كاسترو، وهو الاتجاه الموضوعي، والاتجاه الذي يمثله ألبورنوس، ويغلب عليه الطرح الإيديولوجي.

واللافت للنظر هو انتعاش الاتجاه الأول، وانبعاث نشاط الجامعات الإسبانية لبعث الفترة الإسلامية، وقيام مراكز بحثية لاستجلاء التراث العربي الإسلامي، مثل البيت العربي في مدريد، والمؤسسة الأوروبية العربية في غرناطة.

تظل إسبانيا، على الدوام، ضمن الدول الغربية الأقرب إلى العالم العربي، تراثًا ووجدانًا. فلغتها تختزن المؤثر العربي العميق، والمعمار الأندلسي يحمل بصمات العبقرية الإسلامية في أشكاله الهندسية، من المنحنيات بديلاً للخطوط المستقيمة، والأقواس عوضًا عن الزوايا الحادة. بل حتى غناء الفلامنكو هو غناء إسلامي، متحور عن الغناء الصوفي، كما يذهب الباحث أنتونيو مانويل، يفيض بإيحاءات دينية، من قبيل الفاتحة والشهادة. وأهم عنصر تماثل هو طريقة تفكير الإسبان، أو ما يسميه الفيلسوف أورتيكا إيكاسي بـ "عقلانية حية"، تميز شخصية إسبانيا، وهي عقلانية لا تجري قطيعة مع الوجدان، على خلاف عقلانية ديكارت أو كانط، وأقرب ما تكون إلى عقلانية ابن رشد.

إذن، لم يكن غريبًا أن تناصر فعاليات شعبية عريضة إسبانية الفلسطينيين، بالنظر إلى هذا العمق التاريخي الثاوي في وجدانها، فضلاً عن الاعتبارات الإنسانية النبيلة.

لقد آن الأوان لاستجلاء التراث المشترك مع هذا البلد الذي شكل أرض تلاق الشرق والغرب، ومعانقة قضاياه العادلة، مثلما تجلى بوضوح في الحرب على غزة. يتوجب علينا رصد التطور الجديد الذي يحدث في إسبانيا، أسوة بما فعله المرحوم العربي المساري بعد أن تخلصت إسبانيا من الفاشية. إن التغيير الذي يعتمل في إسبانيا من شأنه أن يغير العلاقات السائدة بداخل الاتحاد الأوروبي، وهو أمر سيكون له ما بعده.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة